سورة النساء - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)}
{الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء}، أول ما نلتفت إليه أن بعضهم لم يفسروا الآية إلاّ على الرجل وزوجته على الرغم من أنَّ الآية تكلمت عن مطلق رجال ومطلق نساء، فليست الآية مقصورة على الرجل وزوجه، فالأب قوام على البنات، والأخ على أخواته. ولنفهم أولاً {الرجال قَوَّامُونَ} وماذا تعني؟ وننظر أهذه تعطي النساء التفوق والمركز أم تعطيهن التعب. والحق سبحانه وتعالى يطلب منا أن نحترم قضية كونية، فهو الخالق الذي أحسن كل شيء خلقه وأوضح القضية الإيمانية {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء} والذي يخالف فيها عليه أن يوضح- إن وجد- ما يؤدي إلى المخالفة، والمرأة التي تخاف من هذه الآية، نجد أنها لو لم ترزق بولد ذكر لغضبت، وإذا سألناها: لماذا إذن؟ تقول: أريد ابناً ليحمينا. كيف وأنت تعارضين في هذا الأمر؟
ولنفهم ما معنى (قوَّام)، القوَّام هو المبالغ في القيام. وجاء الحق هنا بالقيام الذي فيه تعب، وعندما تقول: فلان يقوم على القوم؛ أي لا يرتاح أبدا. إذن فلماذا تأخذ {قَوَّامُونَ عَلَى النسآء} على أنه كتم أنفاس؟ لماذا لا تأخذها على أنه سعى في مصالحهن؟ فالرجل مكلف بمهمة القيام على النساء، أي أن يقوم بأداء ما يصلح الأمر. ونجد أن الحق جاء بكلمة (الرجال) على عمومها، وكلمة (النساء) على عمومها، وشيء واحد تكلم فيه بعد ذلك في قوله: {بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} فما وجه التفضيل؟
إن وجه التفضيل أن الرجل له الكدح وله الضرب في الأرض وله السعي على المعاش، وذلك حتى يكفل للمرأة سبل الحياة اللائقة عندما يقوم برعايتها. وفي قصة آدم عليه السلام لنا المثل، حين حذر الحق سبحانه آدم وزوجته من الشيطان، إبليس الذي دُعي إلى السجود مع الملائكة لآدم فأبى، وبذلك عرفنا العداوة المسبقة من إبليس لآدم، وحيثيتها: {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء: 61].
وأوضح الحق لآدم: إذا هبطت إلى الأرض فاذكر هذه العداوة. وأعلم أنه لن يتركك، وسيظل يغويك ويغريك؛ لأنه لا يريد أن يكون عاصياً بمفرده، بل يريد أن يضم إليه آخرين من الجنس الذي أبى أن يسجد هو لأبيهم آدم يريد أن يغويهم، كما حاول إغواء آدم: {إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة} [طه: 117].
وهل قال الحق بعدها: فتشقيا أو فتشقى؟ قال سبحانه: {فتشقى} [طه: 117].
فساعة جاء الشقاء في الأرض والكفاح ستر المرأةوكان الخطاب للرجل. وهذا يدل على أن القوامة تحتاج إلى تعب، وإلى جهد، وإلى سعي، وهذه المهمة تكون للرجل.
ونلحظ أنه ساعة التفضيل قال: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} لقد جاء ب (بعضهم) لأنه ساعة فضل الرجل لأنه قوّام فضل المرأة أيضاً لشيء آخر وهو كونها السكن حين يستريح عندها الرجل وتقوم بمهمتها.
ثم تأتي حيثية القوامة: {وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ}. والمال يأتي نتيجة الحركة ونتيجة التعب، فالذي يتعب نقول له: أنت قوّام، إذن فالمرأة يجب أن تفرح بذلك؛ لأنه سبحانه أعطى المشقة وأعطى التعب للجنس المؤهل لذلك. ولكن مهمتها وإن كانت مهمة عظيمة إلا أنها تتناسب والخصلة المطلوبة أولاً فيها: الرقة والحنان والعطف والوداعة. فلم يأت بمثل هذا ناحية الرجل؛ لأن الكسب لا يريد هذه الأمور، بل يحتاج إلى القوة والعزم والشدة، فقول الله: (قوامون) يعني مبالغين في القيام على أمور النساء.
ويوضح للنساء: لا تذكرن فقط أنها حكاية زوج وزوجة. قدرن أن القيام يكون على أمر البنات والأخوات والأمهات. فلا يصح أن تأخذ (قوام) على أنها السيطرة؛ لأن مهمة القيام جاءت للرجل بمشقة، وهي مهمة صعبة عليه أن يبالغ في القيام على أمر من يتولى شئونهن.
{وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} فإذا كان الزواج متعة للأنثى وللذكر. والاثنان يستمتعان ويريدان استبقاء النوع في الذرية، فما دامت المتعة مشتركة وطلب الذرية أيضا مشتركا فالتبعات التي تترتب على ذلك لم تقع على كل منهما، ولكنها جاءت على الرجل فقط... صداقاً ونفقة حتى ولو كانت المرأة غنية لا يفرض عليها الشرع حتى أن تقرض زوجها.
إذا فقوامه الرجال جاءت للنساء براحة ومنعت عنهن المتاعب. فلماذا تحزن المرأة منها؟ ف {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء} أي قائمون إقامة دائمة؛ لأنه لا يقال قوّام لمطلق قائم، فالقائم يؤدي مهمة لمرة واحدة، لكن (قوّام) تعين أنه مستمر في القوامة.
{الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} وما دمنا نكدح ونتعب للمرأة فلابد أن تكون للمرأة مهمة توازي ذلك وهي أن تكون سكناً له، وهذه فيها تفضيل أيضاً.
لقد قدم الحق سبحانه وتعالى في صدر الآية مقدمة بحكم يجب أن يُلتزم به؛ لأنه حكم الخالق الذي أحسن كل شيء خلقه، فأوضح القضية الإيمانية: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء} ثم جاء بالحيثيات فقال: {بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} ويتابع الحق: {فالصالحات قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ} والمرأة الصالحة هي المرأة التي استقامت على المنهج الذي وضعه لها من خلقها في نوعها، فما دامت هي صالحة تكون قانتة، والقنوت هو دوام الطاعة لله، ومنه قنوت الفجر الذي نقنته، وندعو ونقف مدة أطول في الصلاة التي فيها قنوت.
والمرأة القانتة خاضعة لله، إذن فحين تكون خاضعة لله تلتزم منهج الله وأمره فيما حكم به من أن الرجال قوامون على النساء، {فالصالحات قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ} وحافظات للغيب تدل على سلامة العفة.
فالمرأة حين يغيب عنها الراعي لها والحامي لعرضها كالأب بالنسبة للبنت والابن بالنسبة للأم، والزوج بالنسبة للزوجة، فكل امرأة في ولاية أحد لابد أن تحفظ غيبته؛ ولذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما حدد المرأة الصالحة قال في حديث عن الدنيا: (الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة).
لقد وضع صلى الله عليه وسلم قانوناً للمرأة الصالحة يقول فيه: (خير النساء التي تسرّه إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره).
وأي شيء يحتاج الرجل إليه أحسن من ذلك. وكلمة (إن نظرت إليها سرّتك) إياك أن توجهها ناحية الجمال فقط، جمال المبنى، لا، فساعة تراها اجمع كل صفات الخير فيها ولا تأخذ صفة ولا تترك صفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذرنا من أن نأخذ صفة في المرأة ونترك صفة أخرى، بل لابد أن نأخذها في مجموع صفاتها فقال: (تنكح المرأة لأربع: لما لها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك).
المطلوب ألا تنظر إلى زاوية واحدة في الجمال، بل انظر إلى كل الزوايا، فلو نظرت إلى الزاوية التي تشغل الناس، الزاوية الجمالية، لوجدتها أقل الزوايا بالنسبة إلى تكوين المرأة؛ لأن عمر هذه المسألة (شهر عسل)- كما يقولون- وتنتهي، ثم بعد ذلك تبدو المقومات الأخرى. فإن دخلت على مقوم واحد وهي أن تكون جميلة فأنت تخدع نفسك، وتظن أنك تريدها سيدة صالون! ونقول لك: هذه الصفة أمدها بسيط في عمر الزمن، لكن ما يبقى لك هو أن تكون أمينة، أن تكون مخلصة، أن تكون مدبرة؛ ولذلك فالفشل ينشأ في الأسرة من أن الرجال يدخلون على الزواج بمقياس واحد هو مقياس جمال البنية، وهذا المقياس الواحد عمره قصير، يذهب بعد فترة وتهدأ شِرَّته. وبعد ذلك تستيقظ عيون الرجل لتتطلع إلى نواحي الجمال الأخرى، فلا يجدها. فيحدث الفشل؛ لذلك لابد أن تأخذ مجموعة الزوايا كلها. إياك أن تأخذ زاوية واحدة، وخير الزوايا أن يكون لها دين. وكذلك المقياس بالنسبة لقبول المرأة للزوج، أيضاً خير الزوايا أن يكون له دين، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض).
وعندما استشار رجل سيدنا الحسن بن علي- رضي الله عنهما- قال: زَوّجها من ذي الدين، إن أحبها أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها.
إذن فالدين يرشدنا: لابد أن ننظر إلى المسألة التي سيكون لها عمر طويل في الحياة الممتدة، وبعد ذلك إذا أرادت أن تكون ناجحه فعليها أن ترى إطار نوعيتها وتنبغ فيه، ومن الممكن إن كان عندها وقت أن توسع دائرة مهمتها في بيتها، فإذا كان عندها أولاد فعليها أن تتعلم الحياكة وتقوم بتفصيل وحياكة ملابسها وملابس أولادها فتوفر النقود، أو تتعلم التطريز كي لا تدفع أجرة، أو تتعلم التمريض حتى إذا مرض ولدها استطاعت أن تمرضه وترعاه، أن تتعلم كي تغني عن مدرس خصوصي يأخذ نقوداً من دخل الأسرة، وإن بقي عندها وقت فلتتعلم السباكة لتوفر أجرة السباك إذا فسد صنبور ماء، أو تتعلم إصلاح الكهرباء لتصلح مفتاح الإضاءة.
وتستطيع المرأة أن تقوم بأي عمل وهي جالسة في بيتها وتوفر دخلا لتقابل به المهام التي لا تقدر أن تفعلها، والمرأة تكون من (حافظات الغيب) ليس بارتجالٍ من عندها أو باختيار، بل بالمنهج الذي وضعه الله لحفظ الغيب؟
فما المنهج الذي وضعه الله لحفظ الغيب؟ تحافظ على عرضها وعلى مال زوجها في غيبته، فتنظر المنافذ التي تأتي منها الفتنة وتمتنع عنها، لا تخرج إلى الشوارع إلا لحاجة ماسة أو ضرورة كي لا ترى أحداً يفتنها أو يفتن بها؛ لأن هذه هي مقدمات الحفظ، ولا تذهب في زحمة الحياة، وبعد ذلك نقول لها: (حافظي على الغيب) بل عليها أن تنظر ما بيّنه الله في ذلك. فإن اضطررت أن تخرجي فلتغضي البصر؛ ولذلك قال سبحانه: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31].
فالمرأة إن لم تغض النظر يحدث التفات عاطفي؛ لأن كل شعور في الإنسان له ثلاث مراحل: مرحلة أن يدرك، ومرحلة أن يجد في نفسه، ومرحلة أن ينزع، أي يحول الأمر إلى سلوك، ونضرب دائماً المثل بالوردة. وأنت تسير ترى وردة في بستان وبمجرد رؤيتك لها فهذا إدراك، وإذا أعجبتك الوردة وعشقتها وأحببتها فهذا اسمه وجدان. وإذا اتجهت لتقطفها فهذه عملية نزوعية، فكم مرحلة؟ ثلاث مراحل: إدراك، فوجدان. فنزوع.
ومتى يتدخل الشرع؟ الشرع يتدخل في عملية النزوع دائماً. يقول لك: أنت نظرت الوردة ولم نعترض على ذلك، أحببتها وأعجبتك فلم نقل لك شيئاً، لكن ساعة جئت لتمدّ يدك لتأخذها قلنا لك: لا، الوردة ليست لك.
إذن فأنت حرّ في أن تدرك، وحرّ في أن تجد في نفسك، إنما ساعة تنزع نقول لك: لا، هي ليست لك، وإن أعجبتك فازرع لك وردة في البيت، أو استأذن صاحبها مثلاً.
إذن فالتشريع يتدخل في منطقة النزوع، إلا في أمر المرأة فالتشريع يتدخل من أول الإدراك؛ لأن الذي خلقنا علم أننا إن أدركنا جمالاً، نظرنا له، وستتولد عندنا مواجيد بالنسبة للأشياء التي نراها ونشتهيها، وساعة يوجد إدراك واشتهاء، لا يمكن أن ينفصل هذا عن النزوع؛ لأنك- كرجل- مركب تركيباً كيميائياً بحيث إذ أدركت جمالاً ثم حدث لك وجدان واشتهاء، فالاشتهاء لا يهدأ إلا بنزوع، فيبيّن لك الشرع: أنا رحمتك من أول الأمر، وتدخلت من أول المسألة.
وكل شيء أتدخل فيه عند النزوع إلا المرأة فقد تدخلت فيها من أول الإدراك؛ لذلك أمر الحق الرجل أن يغض البصر، وكذلك أمر المرأة.
لماذا؟ لأنك إن أدركت فستجد، وإن وجدت فستحاول أن تنزع ونزوعك سيكون عربدة في أعراض الناس، وإن لم تنزع فسيبقى عندك كبت؛ لذلك حسم الحق المسألة من أولها قال: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلك أزكى لَهُمْ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30-31].
فامنعو المسألة من أول مراحلها لماذا؟ لأنني عندما أرى وردة، ثم قالوا لي: هي ليست لك فلا تقطفها، فلا يحدث عندي ارتباك في مادتي، لكن عندما يرى الرجل امرأة جميلة وتدخل في وجدانه فسيحدث عنده النزوع؛ لأن له أجهزة مخصوصة تنفعل لهذا الجمال، ولذلك يوضح لك الحق: أنا خالقك وسأتدخل في المسألة من أول الأمر، فقوله: {بِمَا حَفِظَ الله} أي بالمنهج الذي وضعه الله للحفظ: ألا أعرض نفسي إلى إدراك، فينشأ عنه وجدان، وبعد ذلك أفكر في النزوع، فإن نزعت أفسدت، وإن لم تنزع تعقدت، فيأتي شرّ من ذلك، هذا معنى: {بِمَا حَفِظَ الله}، يعني انظروا إلى المنهج الذي وضعه الله لأن تحفظ المرأة غيبة زوجها، وهي تحفظه ليس بمنهج من عندها. بل بالمنهج الذي وضعه خالقها وخالقه.
وها هو ذا الحق سبحانه وتعالى حينما يربّى من عبده حاسة اليقظة قال: {واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} فالنشوز لم يحدث بل مخافة أن يحدث، فاليقظة تقتضي الترقب من أول الأمر، لا تترك المسألة حتى يحدث النشوز، و(النشوز) من (نشز) أي ارتفع في المكان. ومنه (النشز) وهو المكان المرتفع، وما دام الحق قد قال: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء} فالمعنى هنا: مَن تريد أن تتعالى وتوضع في مكانة عالية؟؛ ولذلك فالنشاز حتى في النغم هو: صوت خارج عن قواعد النغم فيقولون: هذه النغمة النشاز، أي خرجت عن قاعدة النغمة التي سبقتها. وكذلك المرأة المفروض فيها أنها تكون متطامنة، فإن شعرت أن في بالها أن تتعالى فإياك أن تتركها إلى أن تصعد إلى الربوة وترتفع. بل عليك التصرف من أول ما تشعر ببوادر النشوز فتمنعه، ومعنى قوله: {واللاتي تَخَافُونَ} يعني أن النشوز أمر متخوف منه ومتوقع ولم يحدث بعد.
وكيف يكون العلاج؟ يقول الحق: (فعظوهن) أي ساعة تراها تنوي هذا فعظها، والوعظ: النصح بالرقة والرفق، قالوا في النصح بالرقة: أن تنتهز فرصة انسجام المرأة معك، وتنصحها في الظرف المناسب لكي يكون الوعظ والإرشاد مقبولاً فلا تأت لإنسان وتعظه إلا وقلبه متعلق بك.
ولنفترض أن ابناً طلب من والده طلباً، ولم يحضره الأب، ثم جاءت الأم لتشكو للأب سلوك الابن، فيحاول الأب إحضار الطلب الذي تمناه الابن، ويقول له:
- تعال هنا يا بني، إن الله قد وفقني أن أحضر لك ما طلبت.
وفي لحظة فرح الابن بالحصول على ما تمنى، يقول له الأب: لو تذكرت ما قالته لي أمك من سلوكك الرديء لما أحضرته لك.
ولو سب الأب ابنه في هذه اللحظة فإن الابن يضحك.
لماذا؟ لأن الأب أعطى الابن الدرس والعظة في وقت ارتباط قلبه وعاطفته به. ولكن نحن نفعل غير ذلك. فالواحد يأتي للولد في الوقت الذي يكون هناك نفور بينهما، ويحاول أن يعظه؛ لذلك لا تنفع الموعظة، وإذا أردنا أن تنفع الموعظة يجب أن نغير من أنفسنا، وأن ننتهز فرصة التصاق عواطف من نرغب في وعظه فنأتي ونعطي العظة.
هكذا (فعظوهن) هذه معناها: برفق وبلطف، ومن الرفق واللطف أن تختار وقت العظة، وتعرف وقت العظة عندما يكون هناك انسجام، فإن لم تنفع هذه العظة ورأيت الأمر داخلاً إلى ناحية الربوة؛ والنشوز فانتبه. والمرأة عادة تَدِل على الرجل بما يعرف فيه من إقباله عليها. وقد تصبر المرأة على الرجل أكثر من صبر الرجل عليها؛ لأن تكوين الرجل له جهاز لا يهدأ إلا أن يفعل. لكن المرأة تستثار ببطء، فعندما تنفعل أجهزة الرجل فهو لا يقدر أن يصبر، لكن المرأة لا تنفعل ولا تستثار بسرعة، فأنت ساعة ترى هذه الحكاية، وهي تعرفك أنك رجل تحب نتائج العواطف والاسترسال؛ فأعط لها درساً في هذه الناحية، اهجرها في المضجع.
وانظر إلى الدقة، لا تهجرها في البيت، لا تهجرها في الحجرة، بل تنام في جانب وهي في جانب آخر، حتى لا تفضح ما بينكما من غضب، اهجرها في المضجع؛ لأنك إن هجرتها وكل البيت علم أنك تنام في حجرة مستقلة أو تركت البيت وهربت، فأنت تثير فيها غريزة العناد، لكن عندما تهجرها في المضجع فذلك أمرٍ يكون بينك وبينها فقط، وسيأتيها ظرف عاطفي فتتغاضى، وسيأتيك أنت أيضاً ظرف عاطفي فتتغاضى، وقد يتمنى كل منكما أن يصالح الآخر.
إذن فقوله: {واهجروهن فِي المضاجع} كأنك تقول لها: إن كنت سَتُدِلِّينَ بهذه فأنا أقدر على نفسي. ويتساءل بعضهم: وماذا يعني بأن يهجرها في المضاجع؟. نقول: ما دام المضجع واحداً فليعطها ظهره وبشرط ألا يفضح المسألة، بل ينام على السرير وتُغلق الحجرة عليهما ولا يعرف أحد شيئاً؛ لأن أي خلاف بين الرجل والمرأة إن ظل بينهما فهو ينتهي إلى أقرب وقت، وساعة يخرج الرجل وعواطفه تلتهب قليلاً، يرجع ويتلمسها، وهي أيضاً تتلمسه.
والذي يفسد البيوت أن عناصر من الخارج تتدخل، وهذه العناصر تورث في المرأة عناداً وفي الرجل عناداً؛ لذلك لا يصح أن يفضح الرجل ما بينه وبينه المرأة عند الأم والأب والأخ، ولنجعل الخلاف دائماً محصوراً بين الرجل والمرأة فقط. فهناك أمر بينهما سيلجئهما إلى أن يتسامحا معاً.
{فَعِظُوهُنَّ واهجروهن فِي المضاجع واضربوهن} وقالوا: إن الضرب بشرط ألا يسيل دما ولا يكسر عظما.. أي يكون ضرباً خفيفاً يدل على عدم الرضا؛ ولذلك فبعض العلماء قالوا: يضربها بالسواك.
وعلمنا ربنا هذا الأمر في قصة سيدنا أيوب عندما حلف أن يضرب امرأته مائة جلدة، قال له ربنا: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} [ص: 44].
والضغث هو الحزمة من الحشيش يكون فيها مائة عود، ويضربها ضربة واحدة فكأنه ضربها مائة ضربة وانتهت. فالمرأة عندما تجد الضرب مشوباً بحنان الضارب فهي تطيع من نفسها، وعلى كل حال فإياكم أن تفهموا أن الذي خلقنا يشرع حكماً تأباه العواطف، إنما يأباه كبرياء العواطف، فالذي شرع وقال هذا لابد أن يكون هكذا.
{واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ واهجروهن فِي المضاجع واضربوهن} أي ضرباً غير مبرح، ومعنى: غير مبرح أي ألا يسيل دماً أو يكسر عظماً ويتابع الحق: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً}.
فالمسألة ليست استذلالاً. بل إصلاحا وتقويما، وأنت لك الظاهر من أمرها، إياك أن تقول: إنها تطيعني لكن قلبها ليس معي؛ وتدخل في دوامة الغيب، نقول لك: ليس لك شأن لأن المحكوم عليه في كل التصرفات هو ظاهر الأحداث. أما باطن الأحداث فليس لك به شأن ما دام الحق قال: {أطعنكم}؛ فظاهر الحدث إذن أن المسألة انتهت ولا نشوز تخافه، وأنت إن بغيت عليها سبيلاً بعد أن أطاعتك، كنت قوياً عليها فيجب أن تتنبه إلى أن الذي أحلها لك بكلمة هو أقوى عليك منك عليها وهذا تهديد من الله.
ومعنى التهديد من الله لنا أنه أوضح: هذه صنعتي، وأنا الذي جعلتك تأخذها بكلمتيّ زوجني.. زوجتك.. وما دمت قد ملكتها بكلمة مني فلا تتعال عليها؛ لأنني كما حميت حقك أحمى حقها. فلا أحد منكما أولى بي من الآخر، لأنكما صنعتي وأنا أريد أن تستقر الأمور، وبعد هذا الخطاب للأزواج يأتي خطاب جديد في قول الحق من بعد ذلك: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا...}.


{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)}
وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} يعني أن الشقاق لم يقع بعد، إنما تخافون أن يقع الشقاق، وما هو (الشقاق)؟ الشقاق مادته من الشق، وشق: أي أبعد شيئاً عن شيء، شققت اللوح: أي أبعدت نصفيه عن بعضهما، إذن فكلمة (شقاق بينهما) تدل على أنهما التحما بالزواج وصارا شيئاً واحداً، فأي شيء يبعد بين الاثنين يكون (شقاقاً) إذ بالزواج والمعاشرة يكون الرجل قد التحم بزوجه هذا ما قاله الله: {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء: 21].
ويتأكد هذا المعنى في آية أخرى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187].
وهذا يعني أن المرأة مظروفة في الرجل والرجل مظروف فيها. فالرجل ساتر عليها وهي ساترة عليه، فإذا تعدّاهما الأمر، يقول الحق: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} من الذين يخافون؟.. أهو وليّ الأمر أم القرابة القريبة من أولياء أمورها وأموره؟ أي الناس الذين يهمهم هذه المسألة.
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ} إنهم البيئة والمجال العائلي، إذن فلا ندع المسائل إلى أن يحدث الشقاق، كأن الإسلام والقرآن ينبهنا إلى أن كل إناس في محيط الأسرة يجب أن يكونوا يقظين إلى الحالات النفسية التي تعترض هذه الأسرة، سواء أكان أباً أم أخاً أم قريباً عليه أن يكون متنبهاً لأحوال الأسرة ولا يترك الأمور حتى يحدث الشقاق بدليل أنه قال: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا} وهذا القول هو لوليّ الأمر العام أيضاً إذا كانت عيونه يقظة إلى أنه يشرف على علاقات كل البيوت، ولكن هذا أمر غير وارد في ضوء مسئوليات ولي الأمر في العصر الحديث. إذن فلابد أن الذي سيتيسر له تطبيق هذا الأمر هم البارزون من الأهل هنا وهناك، وعلى كل من لهم وجاهة في الأسرة أن يلاحظوا الخط البياني للأسرة، يقولون: نرى كذا وكذا.
ونأخذ حَكَماً من هنا وحكماً من هناك وننظر المسألة التي ستؤدي إلى عاصفة قبل أن تحدث العاصفة؛ فالمصلحة انتقلت من الزوجين إلى واحد من أهل الزوج وواحد من أهل الزوجة، فهؤلاء ليس بينهما مسألة ظاهرة بأدلتها، ولم تتبلور المشكلة بعد، وليس في صدر أي منهما حُكْمٌ مسبق، ويجوز أن يكون بين الزوجين أشياء، إنما الحكَم من أهل الزوج والحكَم من أهل الزوجة ليس في صدر أي منهما شيء، وما دام الاثنان ستوكل إليهما مهمة الحكم. فلابد أن يتفقا على ما يحدث بحيث إذا رأى الاثنان أنه لا صلح إلا بأن تطلق، فهما يحكمان بالطلاق، والناس قد تفهم أن الحكم هم أناس يُصْلِحُون بين الزوجين فإن لم يعجبهم الحكم بقي الزوجان على الشقاق، لا.
فنحن نختار حكماً من هنا وحكماً من هناك.
إن ما يقوله الحكمان لابد أن ننفذه، فقد حصرت هذه المسألة في الحكمين فقال: {إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ}.. فكأن المهمة الأساسية هي الإصلاح وعلى الحكمين أن يدخلا بنية الإصلاح، فإن لم يوفق الله بينهما فكأن الحكمين قد دخلا بألا يصلحا.
إن على كل حكم أن يخاف على نفسه ويحاول أن يخلص في سبيل الوصول إلى الإصلاح؛ لأنه إن لم يخلص فستنتقل المسألة إلى فضيحة له. الذي خلق الجميع: الزوج والزوجة والحكم من أهل الزوج والحكم من أهل الزوجة قال: {إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ} فليذهب الاثنان تحت هذه القضية، ويصرّا بإخلاص على التوفيق بينهما؛ لأن الله حين يطلق قضية كونية، فكل واحد يسوس نفسه وحركته في دائرة هذه القضية. وحين يطلق الله قضية عامة فهو العليم الخبير، ومثال ذلك قوله: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173].
إنه سبحانه قال ذلك، فليحرص كل جندي على أن يكون جندياً لله؛ لأنه إن انهزم فسنقول له: أنت لم تكن جندياً لله، فيخاف من هذه. إذن فوضع القضية الكونية في إطار عقدي كي يجند الإنسان كل ملكاته في إنجاح المهمة، وعندما يقول الله: {إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ}، فإياك أن تغتر بحزم الحكمين، وبذكاء الحكمين، فهذه أسباب. ونؤكد دائماً: إياك أن تغتر بالأسباب؛ لأن كل شيء من المسبب الأعلى، ولنلحظ دقة القول الحكيم: {يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ} فسبحانه لم يقل: إن يريدا إصلاحاً يوفقا بينهما. بل احتفظ سبحانه لنفسه بفضل التوفيق بين الزوجين.
ويذيل سبحانه الآية: {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} أي بأحوال الزوج، وبأحوال الزوجة، وبأحوال الحكم من أهله، وبأحوال الحكم من أهلها، فهم محوطون بعلمه. وعلى كل واحد أن يحرص على تصرفه؛ لأنه مسئول عن كل حركة من الحركات التي تكتنف هذه القضية؛ فربنا عليم وخبير.
وما الفرق بين (عليم) و(خبير)؟.. فالعلم قد تأخذه من علم غيرك إنما الخبرة فهي لذاتك.
وبعد أن تكلم الحق على ما سبق من الأحكام في الزواج وفي المحرمات، وأخذنا من مقابلها المحللات، وتكلم عمن لا يستطيع طولاً وتكلم عن المال.. وحذرنا أن نأكله بالباطل، وتكلم عن الحال بين الرجل والمرأة، وبعد ذلك لفتنا الحق ووجهنا ونبهنا إلى المنهج الأعلى وهو قوله سبحانه: {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ...}.


{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)}
وعندما يقول لنا الحق: {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} أي: إياكم أن تدخلوا في قضية من هذه القضايا؟ على غير طاعة الله في منهجه.. والعبادة هي: طاعة العابد للمعبود، فلا تأخذها على أنها العبادات التي نفعلها فقط من: الصلاة والصوم والزكاة والحج؛ لأن هذه أركان الإسلام، وما دامت هذه هي الأركان والأسس التي بني عليها الإسلام، إذن فالإسلام لا يتكون من الأركان فقط بل الأركان هي الأسس التي بني عليها الإسلام، والأسس التي بني عليها البيت ليست هي كل البيت؛لذلك فالإسلام بنيان متعدد. فالذين يحاولون أن يأخذوا من المصطلح التصنيفي، أو المصطلح الفني في العلوم ويقولون: إن العبادات هي: الصلاة وما يتعلق بها.. والزكاة والصوم والحج؛ لأنها تسمى في كتب الفقه (العبادات) فلقد قلنا: إن هذا هو الاسم الاصطلاحي، لكن كل أمر من الله هو عبادة.
ولذلك فبعض الناس يقول: نعبد الله ولا نعمل. نقول لهم: العبادة هي طاعة عابد لأمر معبود، ولا تفهموا العبارة على أساس أنها الشعائر فقط، فالشعائر هي إعلان استدامة الولاء لله. وتعطي شحنة لنستقبل أحداث الحياة، ولكن الشعائر وحدها ليست كل العبادة، فالمعاملات عبادة، والمفهوم الحقيقي للعبادة أنها تشمل عمارة الأرض، فالحق سبحانه وتعالى قال: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع} [الجمعة: 9].
كأنه أخرجهم من البيع إلى الصلاة، ولم يخرجهم من فراغ بل أخرجهم من حركة البيع، وجاء ب (البيع) لأنه العملية التي يأتي ربحها مباشرة؛ لأنك عندما تزرع زرعاً ستنتظر مدة تطول أو تقصر لتخرج الثمار، لكن البيع تأتي ثمرته مباشرة، تبيع فتأخذ الربح في الحال. والبيع- كما نعلم- ينظم كل حركات الحياة، لأن معنى البيع: أنه وسيط بين منتج ومستهلك، فعندما تبيع سلعة، هذه السلعة جاءت من منتجٍ، والمنتج يبحث عن وسيط يبيعها لمستتهلك، وهذا المستهلك تجده منتجاً أيضاً، والمنتج تجده أيضاً مستهلكاً. فالإنتاج والاستهلاك تبادل وحركة الحياة كلها في البيع وفي الشراء، وما دام هناك بيع ففيه شراء. فهذا استمرار لحركة الحياة. والبائع دائماً يحب أن يبيع، لكن المشتري قد لا يحب أن يشتري؛ لأن المشتري سيدفع مالاً والبائع يكسب مالاً، فيوضح الله: أتركوا هذه العملية التي يأتي ربحها مباشرة، ولبّوا النداء لصلاة الجمعة. لكن ماذا بعد الصلاة؟ يقول الحق: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].
إذن فهذا أمر أيضاً. فإن أطعنا الأمر الأول: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} فالأمر في {فانتشروا فِي الأرض} يستوجب الطاعة كذلك. إذن فكل هذه عبادة، وتكون حركة الحياة كلها عبادة: إن كانت صلاة فهي عبادة، والصوم عبادة، وبعد ذلك.
ألا تحتاج الصلاة لقوام حياة؟ لابد أن تتوافر لك مقومات حياة حتى تصلي. وما هي مقومات حياتك؟ إنها طعام وشراب ومسكن ومَلْبس، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. إذن فجماع حركة الحياة كلها سلسلة عبادة، ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول: {اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا} [هود: 61].
إذن فكل عمل يؤدي إلى عمارة الكون واستنباط أسرار الله في الوجود يعتبر عبادة لله؛ لأنك تخرج من كنوز الله التي أودعها في الأرض ما يلفت الناس إلى الحقيقة الكونية التي جاء بها الإيمان.
وإياك أن تظن أن العبادة هي فقط العبادة التصنيفية التي في الفقه (قسم العبادات) و(قسم المعاملات).. لا، فكله عبادة، لكن الحركات الحياتية الأخرى لا تظهر فيها العبادة مباشرة؛ لأنك تعمل لنفعك، أما في الصلاة فأنت تقتطع من وقتك، فسميناها العبادة الصحيحة؛ لأن العمليات الأخرى يعمل مثلها من لم يؤمن بإله، فهو أيضا يخرج للحياة ويزرع ويصنع.
ولماذا سموها العبادات؟ لأن مثلها لا يأتي من غير متدين. إنما الأعمال الأخرى من عمارة الكون والمصلحة الدنيوية فغير المتدين يفعلها ولكن كل أمر لله نطيعه فيه اسمه عبادة. هذا مفهوم العبادة الذي يجب أن يتأكد لنا أن نخلص العمل بالعقول التي خلقها الله لنا بالطاقات المخلوقة لنا، في المادة المخلوقة وهي الأرض وعناصرها لنرقي بالوجود إلى مستوى يسعدنا ويرضي الله عنه.
{واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً}. بعدما قال كل هذا الكلام السابق، لفتنا ربنا إلى قضية يجب أن نلحظها دائما في كل تصرفاتنا هي أن نأتمر بأمر الله في منهجه، وألا نشرك به شيئاً؛ لأن الشرك يضر قضية الإنسان في الوجود، فإن كنت في عمل إياك أن تجعل الأسباب في ذهنك أمام المسبب الأعلى.. بل اقصد في كل عمل وجه الله.
ويضرب الحق المثل لراحة الموحد ولتعب المشرك فقال: {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29].
فهذا عبد مملوك لجماعة، والجماعة مختلفة ومتشاكسة، وهو لا يعرف كيف يوفق بين أوامر كل منهم التي تتضارب، فإن أرضي هذا، أغضب ذاك. إذن فهو عبد مبدد الطاقة موزع الجهد، مقسم الالتفاتات، ولكن العبد المملوك لواحد، لا يتلقى أمراً إلا من سيد واحد ونهياً من السيد نفسه. والحق يشرع القضية لعباده بصيغة الاستفهام، وهو العليم بكل شيء ليجعل المؤمن به يشاركه في الجواب حتى إذا ما قال الحق: (هل يستويان)؟ هنا يعرضها الإنسان على عقله ويريد أن يجيب، فماذا يقول؟ سيجيب بطبيعة الفطرة وطبيعة منطق الحق قائلاً: لا يا رب لا يستويان.
إذن فأنت أيها العبد المؤمن قد قلتها، ولم يفرضها الله عليك. وقد طرحها الحق سبحانه سؤالاً منه إليك؛ حتى يكون جوابك الذي لن تجد جواباً سواه. فإذا ما كنت كذلك أيها العبد المؤمن قد ارتحت في الوجود وتوافرت لك طاقتك لأمر واحد ونهي واحد، هنا تصبح سيداً في الكون، فلا تجد في الكون من يأخذ منك عبوديتك للمكون. وتلك هي راحتنا في تنفيذ قول الله: {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} لأن الإشراك بالله- والعياذ بالله- يرهق صاحبه. ويا ليت المشركين حين يشركون يأخذون عون الله، ولا يأخذون عون الشركاء. لكن الله يتخلى عن العبد المشرك، لأنه سبحانه يقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه).
الحق إذن يتخلى عن العبد المشرك. وليت العبد المشرك يأخذ حظه من الله كشريك.. وإنما ينعدم عنه حظ الله؛ لأن الله غني أن يشرك معه أحدا آخر. وهكذا يكون المشرك بلا رصيد إيماني، ويحيا في كد وتعب. ويردف الحق سبحانه وتعالى عبادته بالإحسان إلى الوالدين فيأتي قوله- جل شأنه-: {وبالوالدين إِحْسَاناً} والوالدان هما الأب والأم؛ لأنهما السبب المباشر في وجودك أيها المؤمن. وما دامت عبادتك لله هي فرع وجودك، إذن فإيجادك من أب وأم كسببين يجب أن يلفتك إلى السبب الأول؛ إن ذلك يلفتك إلى من أوجد السلسلة إلى أن تصل إلى الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام.
{وبالوالدين إِحْسَاناً}.. انظر إلى المنزلة التي أعطاها الله للوالدين، وهما الأب والأم. والخطاب لك أيها المسلم لتعبد الله، والتكليف لك وأنت فرع الوجود؛ لأن الخطاب لمكلف، والتكليف فرع الوجود، والوالدان هما السبب المباشر لوجودك، فإذا صعّدت السبب فالوالدان من أين جاءا؟.. من والدين، وهكذا حتى تصل لله، إذن فانتهت المسألة إلى الواحد؛ لأن التكليف من المُكلِّف إلى المُكلَّف فرع الوجود. والوجود له سبب ظاهري هما (الوالدان)، وعندما تسلسلها تصل لله إنه سبحانه أمر: اعبدني ولا تشرك بي شيئا، وبعد ذلك.. {وبالوالدين إِحْسَاناً}.. كلمة (الإحسان) تدل على المبالغة في العطاء الزائد.. الذي نسميه مقام الإحسان.
{وبالوالدين إِحْسَاناً}.. الحق سبحانه وتعالى حينما قرن الوالدين بعبادته، لأنه إله واحد ولا نشرك به شيئا، لم ينكر أو يتعرض لإيمانهما أو كفرهما؛ لأن هناك آية أخرى يقول فيها: {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15].
صحيح لا تطعهما ولكن احترمهما؛ لأنهما السبب المباشر في الوجود وإن كان هذا السبب مخالفاً لمن أنشأه وأوجده وهو الله- جلت قدرته- {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً} والمعروف يصنعه الإنسان فيمن يحبه وفيمن لا يحبه، إياك أن يكون قلبك متعلقاً بهما إن كانا مشركين، لكن صاحبهما في الدنيا معروفاً؛ ولذلك قال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا} أي انظر مصلحتهما في أمور الدنيا معروفاً منك.
والمعروف تصنعه فيمن تحب وفيمن لا تحب.
والحق يقول: {وبالوالدين إِحْسَاناً}.. ويكررها في آيات متعددة.. فقد سبق في سورة البقرة أن قال لنا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله وبالوالدين إِحْسَاناً} [البقرة: 83].
وبعد ذلك تأتي هذه الآية التي نحن بصددها.. {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً}.
وبعد ذلك يأتي أيضاً قوله سبحانه: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً} [الأنعام: 151].
وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى فيقول: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15].
ويأتي أيضاً في سورة العنكبوت فيقول: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت: 8].
لكن إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعمها، فإن كان الوالدان مشركين فلابد أن نعطف عليهما معروفا.. والمعروف كما أوضحنا يكون لمن تحب ومن لا تحب، ولكن الممنوع هو: الودادة القلبية؛ ولذلك قال: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22].
ولا يوجد تناقض أو شبه تناقض بين الآية التي نحن بصددها وبين آية سورة المجادلة. وهناك آيات تكلم فيها الحق وقرن عبادته بالإحسان إلى الوالدين، وهناك آيتان جاء الأمر فيهما بالتوصية وبالوالدين استقلالا.
وذلك في قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} [الأحقاف: 15].
وفي قوله سبحانه: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت: 8].
ففيه (إحسان) وفيه (حسن)، (الإحسان): هو أن تفعل فوق ما كلفك الله مستشعراً أنه يراك. فإن لم تكن تراه فإنه يراك، و(الإحسان) من (أحسن)، فيكون معناها أنه ارتضى التكليف وزاد على كلفه. وعندما يزيد الإنسان على ما كلفه الله أن يصلي الخمس المطلوبة ثم يجعلها عشرة، ويصوم شهر رمضان، ثم يصوم يومي الاثنين والخميس أو كذا من الشهور، ويزكي حسب ما قرر الشرع باثنين ونصف في المائة وقد يزيد الزكاة إلى عشرة في المائة، ويحج ثم يزيد الحج مرتين. إذن فالمسألة أن تزيد على ما افترض الله، فيكون قد أدخلك الله في مقام الإحسان؛ لأنك حين جربت أداء الفرائض ذقت حلاوتها. وعلمت مما أفاضه الله عليك من معين التقوى ومن رصيد قوله: {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله} [البقرة: 282].
علمت أن الله يستحق منك أكثر مما كلفك به؛ ولذلك فبعض الصالحين في أحد سبحاته قال: (اللهم إني أخشى ألا تثيبني على الطاعة لأنني أصبحت أشتهيها).. أي صارت شهوة نفس، فهو خائف أن يفقد حلاوة التكليف والمشقة فيقول: يا رب إنني أصبحت أحبها، ومفروض منا أننا نمنع شهوات أنفسنا لكنها أصبحت شهوة فماذا أفعل؟
إذن فهذا الرجل قد دخل في مقام الإحسان واطمأنت نفسه ورضيت وأصبح هواه تبعا لما أمر به الله ورضيه.
ولذلك يجب أن نلحظ أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن المتقين قال: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 15-16].
لماذا هم محسنون يا رب؟.
يقول الحق: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17].
وهل كلفني الله. ألا أهجع إلا قليلاً من الليل؟ إن الإنسان يصلي العشاء من أول الليل وينام حتى الفجر، هذا هو التكليف، لكن أن تحلو للمؤمن العبادة، ويزداد الإيمان في القلب والجوارح، ويأنس العبد بالقرب من الله، فالحق لا يَرُدَّ مثل هذا العبد بل إنّه يستقبله ويدخله في مقام الإحسان: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 16-18].
وربنا لم يكلفهم بذلك، إنما كلفهم فقط بخمسة فروض. ونعرف قصة الأعرابي الذي قال للرسول صلى الله عليه وسلم: هل عليّ غيرها؟ قال له: لا، إلا أن تَطّوَّعَ، وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطّوّع، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق».
وبذلك دخل هذا الأعرابي في نطاق المفلحين. إذن فالذي يزيد على هذا يدخله الله في نطاق المحسنين. {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 17-19].
ولنلحظ دقة الأداء، إن الحق لم يذكر أن للمحرومين في أموال المحسنين حقاً معلوماً. لماذا؟؛ لأن الحق سبحانه- ترك للمحسن الحرية في أن يزيد على نسبة الزكاة التي يمنحها للسائل والمحروم، وحينما يتكلم سبحانه عن مطلوب الإيمان يقول: {والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّآئِلِ والمحروم} [المعارج: 24-25].
إذن فالذي يزيد على ذلك ينتقل من مقام الإيمان ليدخل في مقام الإحسان. كأنه يقول لك في الآية التي نحن بصددها: إياك أن تعمل مع والديك القدر المفروض فقط، بل ادخل في برّهما والإنعام عليهما والتلطف بهما والرحمة لهما وذلّة الانكسار فوق ما يطلب منك، ادخل في مقام الإحسان، ثم يأتي في آية أخرى ليرشدنا بعد أن أدخلنا في مقام الإحسان، إنّه يصف ذلك الإحسان بشيء آخر وهو (الحسن): {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنبكوت: 8].
وما هو المقابل (للحسن)؟ إنه (القبح)، إذن فالحق أدخلنا في مقام الجمال مرة، وفي مقام الإحسان مرة أخرى، وهنا أكثر من ملحظ يجب ألا يغيب عن بال المسلم، أولاً: نجد أن المفروض في الشائع الغالب أنّ الوالدين يربيان أبناءهما، ومن النادر أن يصبح الولد يتيماً ويربيه غير والديه، فقال: الحظ سبب التربية بعد الوجود، فسبب الوجود: يوجب عليك أن تعطيهما حقوقهما وفوق حقوقهما وتدخل في مقام الإحسان، ولكنه جاء في آية وعلل ذلك فقال: {وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 24].
لقد جاء الحق بالتربية حيثية في الدعاء لهما وفي البر التوصية بهما، لكن لو أن إنساناً أخذ فيك منزلة التربية ولم يأخذ فيك سببية الإيجاد، أله حق عليك أن يكون كوالديك؟
إن الحق يقول: {كَمَا رَبَّيَانِي}، فإذا كان والدي لهما هذا الحق، فكذلك من قام بتربيتي من غير الوالدين له هذا الحق أيضاً! ما دام جاء الحق بالوالدين في علة الإحسان: {وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}.. فمرة نلحظ أنه لا يجيء بمسألة التربية كي نعلم أن الوالدين هما سبب الوجود، ومرة يلفتنا إلى أن من يتولى التربية يأخذ حظ الوالدين، وشيء آخر: وهو أن الحق سبحانه وتعالى حينما وصى بالوالدين إحسانا، جاء في الحيثيات بما يتعلق بالأم ولم يأت بما يتعلق بالأب: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15].
هنا جاء الحق بالحيثيات للأم وترك الأب بدون حيثية، وهذا كلام رب؛ لأن إحسان الوالدة لولدها وجد وقت أن صار جنيناً. فهي قد حافظت على نفسها وسارت بحساب وحرص فانشغلت به وهو مازال جنيناً. وحاولت أن توفر كل المطالب قبلما يتكون له عقل وفكر. بينما والده قد يكون بعيداً لا يعرفه إلا عندما يكبر ويصير غلاماً ليربيه لكفاح الحياة، أما في الحمل والمهد فكل الخدمات تؤديها الأم ولم يكن للطفل عقل حتى يدرك هذا، إنما بمجرد أن وجد العقل وجد أباه يعايشه ويعاشره، وكلما احتاج إلى شيء قالت له الأم: أبوك يحققه لك، وكل حاجة يحتاج إليها الطفل يسأل أباه أن يأتيه بها، وينسي الطفل حكاية أمه وحملها له في بطنها وأنها أرضعته وسهرت عليه؛ لأنه لم يكن عنده إدراك ساعة فعلت كل ذلك، فمن الذي- إذن- يحتاج إلى الحيثية؟ إنها الأم، أما حيثية إكرام الأب فموجودة للإنسان منذ بدء وعيه لأنه رأى كل حاجته معه؛ لذلك قال الحق: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15].
والطفل لا يعرف حكاية الحمل هذه، وعندما يتنبه يجد أن والده هو الذي يأتي بكل حاجة، وما دام أبوه هو الذي في الصورة، فتكون الحيثية عنه موجودة، والأم حيثيتها مغفولة ومستورة، فكان لابد من أن يذكرنا الله بالحيثية المتروكة عند الإنسان مكتفياً بالحيثية للأب الموجودة والواضحة عند الابن، ولذلك تجد النبي صلى الله عليه وسلم حينما يوصيّ قال: أمك ثم أمك ثم أمك، وبعد ذلك قال: ثم أبوك.
كما جاء في الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك قال ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك).
ولو حسبتها تجدها واضحة، وأيضا فالأبوة رجولة، والرجولة كفاح وسعي. والأمومة حنان وستر، فهي تحتاج ألا تخرج لسؤال الناس لقضاء مصالحها، أبوك إن خرج ليعمل فعمله شرف له. إنما خروج الأم للسعي للرزق فأمر صعب على النفس، فالحق سبحانه وتعالى يقول: {وبالوالدين إِحْسَاناً}.. أو (بوالديه حسنا) إنها.. مقرونة في ثلاث آيات بعبادة الله وعدم الإشراك به، ثم أفردهما بالإحسان في آيتين، ويلاحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم قال: {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15].
لكن هذا لا يمنع أن تعطيهما المعروف وما يحتاجان إليه، ونلحظ أن الحق لم يأت لهما بطلب الرحمة وهما على الشرك والكفر كما طلبها لهما في قوله: {وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 24].
لأنهما وإن ربي جسد الولد فلم يربيا قلبه وإيمانه، فلا يستحقان أن يقول: ارحمهما؛ لأن الحق أراد أن يسع الولد والديه في الدنيا وإن كانا على الكفر.
والحق سبحانه وتعالى حينما يريد أن يشيع الإحسان في الكون كله، يبتدئ بالأقرب فالقريب فالجار، فقال: {وبالوالدين إِحْسَاناً وَبِذِي القربى}. إذن ففيه دوائر. ولو أن كل واحد أحسن إلى أبوية. فلن نَجد واحداً في شيوخته مهيناً أبداً، لذلك يوسع سبحانه دوائر الهمّة الإيمانية فجاء بالوالدين ثم قال بعدها: {وَبِذِي القربى} أي صاحب القربى، وما القربى؟ إن كل من له علاقة نَسَبيَّة بالإنسان يكون قريباً. هذه هي الدائرة الثانية، ولو أن كل إنسان موسعاً عليه وقادراً أخذ دائرة الوالدين ثم أخذ دائرة القربى فستتداخل ألوان البر من أقرباء متعددين على القريب الواحد، وما دامت الدوائر ستتداخل، فالواحد القريب سيجد له كثيرين يقومون على شأنه فلا يكون أحد محتاجا.
وبعد ذلك يتكلم سبحانه عن اليتامى، واليتيم- كما نعلم- هو: من فقد أباه ولم يبلغ مبلغ الرجال، إنه يحتاج إلى حنان أولي. ولكن بعد أن يبلغ مبلغ الرجال فهو لا يُعتبر يتيماً؛ فقد أصبح له ذاتية مستقلة؛ ولذلك يتخلى عنه الوصف باليتيم، والذي تموت أمه لا نسميه (يتيماً)، لكن اليتيم في الحيوانات ليس من فقد أباه بل من فقد أمه، وإن كانت طفولة الحيوانات تنتهي بسرعة؛ لأن والدة الحيوان هي التي ترعاه في طفولته القصيرة نسبياً.
إذن فيتم الحيوان من جهة الأم، والإنسان يتمه هو فَقْد الأب؛ لأن الإنسان أطول الحيوانات طفولة لأنه مُربيَّ لمهمة أسمى من الحيوانية، وعرفنا من قبل أنك عندما تأتي لتزرع- مثلاً- فِجلاً.. فبعد خمسة عشر يوماً تأكل منه، لكنك حينما تزرع نخلة أو تزرع شجرة (مانجو) تمكث كذا سنة، حتى تثمر.. إذن فطول مدة الطفولة وعدم النسل للمثل يتوقف على المهمة الموكلة للشيء، فإن كانت مهمته كبيرة، تكن مدة طفولته أطول.
والله سبحانه وتعالى يريد أن يوسع دائرة الإحسان. فإياك أن تقتصر على الوالدين فقط أو أصحاب القربى فقط. خذ في الدائرة أيضاً (اليتيم)، لأن اليتيم فقد أباه، ثم يرى كثيراً من زملائه وأقربائه لهم آباء، ولو لم يوصّ الحق سبحانه وتعالى بهذا اليتيم لنشأ هذا الولد وفي قلبه جذوة من الحقد على المجتمع، وقد يتمرد على الله، ويتساءل: لماذا لا يكون لي أب وكل واحد من أقراني له أب يأتيه بحاجته، لكن حين يرى أنه فقد أباً واحداً ثم وجد في الجو الإيماني آباء متعددين فهو لا يسخط على أن الله أمات أباه.
إن الذين يخافون أن يموتوا ويتركوا من بعدهم ذرية ضعافا، عليهم بالإحسان إلى اليتيم. فلو رأى الواحد منا يتيماً يُكَرم في بيئة إيوة إيمانية لما شغل نفسه ولما خاف أن يموت ويترك ولداً صغيراً، بل يقول الإنسان لنفسه: إن المجتمع فيه خير كثير، وبذلك يستقبل الإنسان قدر الله بنفس راضية، ولا يؤرق نفسه، وهذه مسألة تشغل الناس فنقول لكل إنسان قادر: إذا كنت في بيئة إيمانية. واليتيم يجد رعاية من آباء إيمانيين متعددين فسينشأ اليتيم وليس فيه حقد؛ ولذلك يقول الحق: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9].
لأنك إن رأيت المجتمع الإيماني قد رعى أيتام غيرك فستكون على ثقة من أنه يرعى أيتامك، فإن جاء الموت أو لم يأت فلا تشغل نفسك به، لكن إذا رأى الإنسان يتيماً مضيعاً، فهو يعض على أسباب الحياة ويريد أن يأتي بالدنيا كلها لولده، ونقول لمثل هذا الأب: اعمل لابنك بأن تضع ما تريد أن تدخره له في يد الله؛ لأن الذي خلق آمن من المخلوق؛ ولذلك قلنا من قبل: إن سيدنا معاوية وسيدنا عمرو بن العاص كانا يجلسان- في أخريات حياتهما- يتكلمان معاً، فيقول عمرو بن العاص لمعاوية: يا أمير المؤمنين: ماذا بقي لك من متع الدنيا؟ قال معاوية: أما الطعام فقد سئمت أطيبه، وأما اللباس فقد مللت ألينه، وحظي الآن في شربة ماء بارد في يوم صائف تحت ظل شجرة.
وهذه كلمة تعطي الإنسان طموحات إيمانية في الكون، فبعدما صار معاوية خليفة وأميراً للمؤمنين والكل مقبل عليه قال: حظي في شربة ماء بارد في ظل شجرة في يوم صائف، وهذه توجد عند ناس كثيرين.
كأن الطموح انتهى إلى ما يوجد عند كل أحد: شربة ماء بارد، ثم قال معاوية لعمرو: وأنت يا عمرو. ماذا بقي لك من متع الدنيا؟ قال عمرو بن العاص: بقي لي أرض خوارة- يعني فيها حيوانات تخور مثل البقر- فيها عين خرارة.. أي تعطي ماءٌ وفيراً لتروي الأرض، وتكون لي في حياتي ولولدي بعد مماتي، وكان هناك خادم يخدمهما اسمه (وردان). أراد أمير المؤمنين أن يلاطفه فقال له: وأنت يا وردان، ماذا بقي لك من متاع الدنيا؟ انظروا إلى جواب العبد كي تعرفوا أن الإيمان ليس فيه سيد ومسود، فقال له: حظي يا أمير المؤمنين: (صنيعة معروف أضعه في أعناق قومٍ كرام لا يؤدونه إليّ في حياتي) أي لا يرون هذا الجميل لي. حتى تبقي لعقبي في عقبهم. إذن فحظه صنيعة معروف يضعه في أعناق قوم كرام لا يؤدونه إليه في حياته حتى تكون لعقبة أي لمن سيترك من أولاده.
كأنه يفهمنا أنه لا شيء يضيع، فكما تمد يدك يمد غيرك يده لك، والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا هذه المنزلة فيقول: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا،) وأشار بإصبعيه متجاورين ، أيّ منزلة هذه، فبالله بعد ذلك ألا يبحث كل واحد منّا عن يتيم يكفله لكي يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة. وهذه المنزلة كانت أمنية كل صحابي.
فقد جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محزون فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا فلان مالي أراك محزونا؟» فقال: يا نبيَّ الله شيء فكرت فيه فقال: «ما هو؟» قال: نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك وغداً ترفع مع النبيين فلا نصل إليك، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ونزل عليه جبريل بهذه الآية: {وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} [النساء: 69].فبعث النبي صلى الله عليه وسلم فبشره.
فالحق يقول لهؤلاء: لا تحزنوا، فما دمتم تحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرحون في الدنيا لأنكم معه فلا تخشوا مسألة وجودكم معه بالجنة فسوف أبعثكم معه في الجنة، فالمرء مع من أحب، ولذلك أقول لكل مسلم: ابحث عن يتيم تكفله كي تأخذ المنزلة الإيمانية، المنزلة العلية في الآخرة.
فقد قال عليه الصلاة والسلام: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبّابة والوسطى وفرّج بينهما).
فقل لي: إذا عاملنا اليتيم في ضوء هذه التعاليم فماذا يحدث؟ سينتشر التكافل في المجتمع.
ويقول الحق بعد ذلك: (والمساكين).. ونعرف أن المساكين.. كما قال الفقهاء عنهم وعن الفقراء: إن كلهم في حاجة، فهل المسكين هو من لا يملك حاجة، أو الفقير هو الذي لا يملك حاجة أو يملك دون حاجته. كأن يكون إيراده مثلاً عشرة بينما حاجتهُ تحتاج إلى عشرين؟ المهم أنه يكون محتاجاً. وكلمة (فقير) مأخوذة من فقار الظهر أي مصاب بما يقصم الوسط والظهر. وهو اسم معبر.
و(مسكين) أيضاً اسم معبر من المسكنة والسكن أي ليس له استعلاء في شيء.. مغلوب ومقهور.. فاللفظ نفسه جاءه معبراً، و(الجار) كلمة (جار) تعني: عدل، كقولنا: جار عن الطريق أي عدل عنه، فكيف أسمى من في جانبي (جاراً)؟ لأن مَن في جانبك حدد مكاناً له من دنيا واسعة، فيكون قد ترك الكثير وجاء للقليل، وأصبح جارك، أي أنه عدل عن دنيا واسعة وجاء جانبك، فيسموا الجار لمن جار، أي عدل عن كل الأمكنة الواسعة وجاء إلى مكان بجانبك.
وهذا الجار يوصي به الله سبحانه وتعالى كما أوصي بالقريب، وباليتيم وبالمسكين، للجار حقوق كثيرة؛ لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث: «الجيران ثلاثة: فجار له حق واحد، وهو أدنى الجيران حقا. وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق: فأما الذي له حق واحد فجار مشرك لا رحم له، له حق الجوار، وأما الذي له حقان فجار مسلم له حق الإسلام وحق الجوار، وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الإسلام وحق الجوار وحق الرحم».
ويقول صلى الله عليه وسلم في حق الجار: «مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه».
أي سيجعل له من الميراث، وما هي حدود الجار؟ حدوده: الأقرب بابا إليك، إلى أربعين ذراعاً، وقالوا: إلى أربعين داراً، هنا يقول الحق: {والجار ذِي القربى}. فأعطاه حق القربى وحق الجوار، وقال؛ {والجار الجنب}. لأن فيه جاراً قريباً وجاراً بعدياً وقوله:(الجنب) أي البعيد، {والصاحب بالجنب} {الصاحب} هو المرافق. {بالجَنْب} أي بجانبه. قالوا: هو الزوجة أو رفيق السفر؛ لأن الرفقاء في السفر مع بعضهم دائماً، أو التابع الذي يتبعك طمعاً فيما عندك من الرزق سواء كان الرزق مالاً أو علماً أو حرفة يريد أن يتعلمها منك؛ فهو الملازم لك، والخادم أيضاً يكون {بالجنب} وكل هذا يوسع الدائرة للإحسان، ولو حسبت هذه الدوائر لوجدتها كلها متداخلة. وها هو ذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول لأبي ذَرٍ رضي الله عنه: «يا أبا ذر إذا طبختَ مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك».
والمهم أن تتواصل مع جارك، أو الجار ذي القربى: أي الذي قربته المعرفة، وكثير من الجيران يكون بينهم ودّ، وهناك جار لا تعرف حتى اسمه، فهذا هو (الجار الجنب)، و(الصاحب بالجنب وابن السبيل) وابن السبيل، فقد تقول مثلاً: فلان بن فلان، كأنك لا تعرف أباه، أو تقول: فلان ابن البلد الفلانية أي لا تعرف عنه شيئاً سوى أنه منسوب لبلد معين، وعندما تقول: ابن سبيل تعني أنه غريب انقطعت به كل الأسباب حتى الأسباب التي يمكن أن تعرفه بها، فساعة تراه تقول (ابن السبيل) أي ابن طريق، ولا تَجد مكانا ينسب إليه إلا الطريق، لا يجد أبا ينسب إليه، لا يجد أمّا، لا يجد قبيلة، لا تعرف عه شيئا.
{وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وسبق أن تكلمنا عن ملك اليمين وقلنا: إن الإسلام إنما جاء لا ليشرع رقاً.. ولكن جاء لينهي رقاً، ويسد منابعه التي كانت موجودة قبل الإسلام، ولا يبقى إلا منبع واحد. هذا المنبع الواحد هو الحرب المشروعة، ولماذا لم يطلقهم؟. لأن الحرب المشروعة عرضة أن يأخذ الخصوم من أبنائي وأنا آخذ من أبنائهم، فلا أطلق أبناءهم إن جاءوا في يدي حتى يطلقوا أبنائي الذين في أيديهم، ويصير الأمر إلى المعاملة بالمثل، التي انتهى إليها العالم الحديث وهي تبادل الأسرى.
وقد نهانا الإسلام في ملك اليمين عن أن يقال: (عبدي) بل يقال: فتاي. ولا يقال: (أمتي) بل يقال: فتأتي، حتى التسمية أراد الشرع أن يهذبها، كي لا تنصرف العبودية إلا لله.
الحق سبحانه وتعالى جاء بالإسلام والرق كان موجوداً، وله ينابيع متعددة فوق العشرين، وليس له إلا مصرف واحد هو إرادة السيد، فجاء الإسلام ليصفي الرق، وأول تصفية لشيء هو أن تسد منابعه. وبدل أن يكون مجرد مصرف واحد، وهي رغبة السيد، جعل له الإسلام مصارف متعددة، إذن فنكون قد حددنا المنابع في نبع واحد، وعددنا المصارف.. فالذنب بينك وبين الله تكفره بأن تعتق رقبة، أي أحدثت ظهاراً مثلا تُعتق رقبة، وهذه رغبة من يريد أن يصفي الرق، فإذا لم توجد عند أي مالك أسباب لتصفية الرق وظل الفتى أو الفتاة تحت يمينه، فالإسلام يرشدك ويهديك: ما دمت لم تؤثر أن تعتقه واستبقيته فأحسن معاملته، أطعمه مما تطعم وألبسه مما تلبس، ولا تكلفه ما لا يطيق، فإن كلفته فيدك معه، وهات لي واحداً يلبس من ملابس سيده ويأكل مثله وعندما يعمل عملاً فوق طاقته تجدُ يَد السيد بيده.. أليست هذه هي المعاملة الطيبة! قال الله: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}.
وبعد ذلك يجيء الحق سبحانه وتعالى في ختام الآية بما يدك كبرياء ذي الإحسان، فإياك أن تكون النعمة أو البذل الذي ستبذله يعطيك في نفسك غرور الاستعلاء؛ لأن غرور الاستعلاء هذا يكون استعلاء كاذباً. وأنت إذا استعليت على غيرك بأعراض الحياة، فهذه الأعراض تتغير، ومعنى (أعراض) أنها تأتي وتزول. فالذي يريد أن يستعلي ويستكبر فعليه أن يستعلي ويستكبر بحاجة ذاتية فيه؛ ولذلك لا يوجد كبرياء إلا الله، إنما الأغيار من البشر. فنحن نرى من كان قوياً يصير إلى ضعف، ومن كان غنياً يصير إلى فقر، ومن كان عالماً يصبح كمن لا يعلم: {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} [الحج: 5].
فلا كبرياء إذن لمخلوق، ومن يريد أن يستعلي ويتكبر على غيره فليتكبر- كما قلنا- بحاجة ذاتية فيه، أي بشيء لا يسلب منه، والخلق كلهم في أغيار، والوجود الإنساني تطرأ عليه الأغيار، إذن فاجعل الكبرياء لصاحبه، وإياك أن تظن أنه عندما قلنا لك: اعمل كذا وأحسن لذي القربى واليتامى والمساكين، إياك أن تحبط هذه الأعمال بأن تستعلي بها؛ لأنها موهوبة لك من الله، وما دامت موهوبة لك من الله فاستح؛ لأن الذي يتكبر هو الذي لا يجد أمام عينه من هو أكبر منه.
هات واحداً يتكبر لأن عنده مليوناً من الجنيهات ثم دخل عليه واحد آخر عنده أكثر منه ماذا يفعل؟ إنه يستحي ويتضاءل، ولا يتكبر الإنسان إلا إذا وجد كل الموجودين أقل منه، لكنه لو ظل ناظراً إلى الله لعلم أن الكبرياء لله وحده.
إذن فعندما يتكبر المتكبر، إنما يفعل ذلك لأن الله ليس في باله. لكن لو كان الحق المتكبر بذاته في باله لاستحي، فإذا كان في بالك من يعطيك لاستحييت.
إذن فمعنى المتكبر أن ربنا غائب عن باله؛ لذلك يقول الحق في ختام الآية: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} وما (الاختيال)؟ وما (الفخر)؟
إن المادة كلها تدل على زهو الحركة، ولذلك نسمي الحصان (خيلا)؛ لأنها تتخايل في حركتها، وعندما يركبها أحد تتبختر به؛ ولذلك نسمي الخيلاء من هذه. إّن (الاختيال): حركة مرئية، (والفخر) حركة مسموعة، فالحق ينهي الإنسان عن أن يمشي بعنجهية، كما نهاه عن أن يسير مائلا بجانبه ولا أن يعتبر نفسه مصدراً للنعمة حتى لا ينطبق عليه قوله سبحانه: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ} [الحج: 9-10].
أما الفخر فهو أن يتشدق الإنسان بالكلام فيحكي عما فعل وكأنه مصدر كل عطاء للبشر، والخيلاء والفخر ممنوعان، وعلى المسلم أن يمتنع عن الحركة المرئية وعن كلام الفخر، ولماذا جاء الحق بهذا هنا؟ إنه جاء به حتى لا يظن عبد أنه يحسن إلى غيره من ذاتيته، إنه يحسن مما وهبه الله.
ولا يصح أن تستخدم من أحسنت إليهم وتتخذهم عبيداً؛ لأنّك تحسن عليهم. وعندما تنظر إلى سيادتك على هؤلاء لأنك تعطيهم، فلماذا لا تنظر إلى سيادة من أعطاك؟ إنك عندما تفعل ذلك وتنظر إلى سيادة خالقك فإنك قد التزمت الأدب معه وبعدت عن الاختيال والفخر بما قدمت لغيرك، يقول الحق: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} [النساء: 36].
وبعدما قال الحق: {وبالوالدين إِحْسَاناً} قال: {وَبِذِي القربى واليتامى}.
وتحدث عن البذل والأريحية والجود والسماح وبسط اليد، أتى سبحانه بالحديث عن المقابل وهو: {الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس...}.

8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15